تكررت في الآونة الأخيرة حوادث النصب علي أموال الناس بحجة استثمارها بعوائد مرتفعة , فبعض الأذكياء يستغلون نقطة ضعف الإنسان في الحصول علي ثروة ويبدأ الجاني في إقناع الضحية بالحصول علي عوائد استثمار تفوق المعدلات الطبيعة , و يرسم لنفسه صورة شبيك لبيك الذي له القدرة علي تحويل التراب إلي ذهب , وبالفعل يصدق في كلامه لعدة اشهر أو سنوات فيقوم بتدوير أموال الضحايا فيما بينهم فيأخذ من الأول اصل المبلغ ليعطي للثاني في صورة عوائد شهريه , قد تصل لأكثر من 50 % سنويا ثم يجمع الجاني أموال الضحايا ويفر هاربا , هذا السيناريو يتكرر في صور مختلفة في جميع أنحاء العالم وفي جميع الأزمنة , والغريب أن الناس لا تتعظ ففي الثمانيات من القرن الماضي , انتشرت ظاهرة توظيف الأموال في مصر واستغل الجناة الدين والعائد المرتفع وأحلام البسطاء وببعض الدهاء هربت مليارات الشعب إلي خارج مصر, وبالرغم من ضخامة المبالغ وخطورة القضية واتخاذ الحكومة لإجراءات تحذر وتحد من عمليات النصب إلا أنها مازالت تتكرر .
أما علي المستوي العالمي , فهناك عمليات النصب الكبرى التي حدثت في مؤسسات مالية عالمية والتي كانت من أسباب الأزمة المالية , فمافيا الاستثمار في وول ستريت ابتدعوا الهندسة المالية وقاموا بعمليات بيع للديون لأكثر من مرة وقد استغلوا ثقة المودعين ومراكزهم المرموقة , فهناك مدير محفظة مالية واحدة تتعدي قيمتها مليارات الدولارات وقد تعدي راتبه الشهري لأكثر من مليون دولار , ويقوم بإدارة ثروة بين يديه تتعدي قيمتها ميزانيات دول , وقد استغل موقفه واستخدم أساليب تلاعب مالية رياضية يصعب فهمها وفي لحظة واحدة انكشف كل شيء , وفقدت الثقة والتي هي الأساس التي بنيت عليه الأسواق المالية , وتتابعت الانهيارات بسرعة البرق نظرا لان اقتصاد العالم اليوم هو اقتصاد حر مفتوح مترابط .
هؤلاء لا يقلون إجراما عن المافيا التي تقتل وتدمر وتخرب , فسواء الجناة المحليين الذين استغلوا أحلام الشعب المصري وهربوا بأموالهم أو الجناة الدوليين الذين لعبوا بالمليارات فالاثنين في الجريمة سواء , فنتائج قراراتهم الغير مسئولة قد أدت إلي تدهور قيمة الاستثمارات وانهيار البورصات وضياع الأموال وإفلاس الشركات , مما قضي علي ملايين الوظائف حول العالم والتي أضحي أصحابها مهددون بالجوع والتشرد , وانتحر الكثير ومنهم رجال أعمال وأثرياء , حتى في مصر أكثر من ثلاث حالات قتل وانتحار بسبب تبخر الثروات , وحادثة المهندس المصري الذي قتل زوجته وأولاده لأنه خسر مليون جنيها , ومازالت عنده ثروة ووظيفة تضمن له الحياة بقية عمره ثريا , دليل واضح علي خطورة الأزمة علي المستوي الاجتماعي , كل هذا بسبب مافيا الاستثمار فهم قلة ولكن قد تحكموا في مصير وثروات الشعوب والدول , وقد أعلنت الحكومات الغربية في بريطانيا وأمريكا وغيرها عن محاكمات لمثل هؤلاء وقد تم فرض حظر نشر في مثل هذه القضايا لأنها تمس سمعة دول وحكومات , و دفاع المتهمين يبرر ببساطة أن المستثمرون قد فوضوا مديري الاستثمار لإدارة أموالهم وكما ربح المودعين أموالا خيالية قبل ذلك أيضا عليهم أن يتحملوا الخسارة الفادحة .
وهناك أيضا جناة غير ظاهرين كان لهم دور رئيسي وهم مؤسسي النظريات الاقتصادية التي تدعو للتحرر وحرية السوق وإزالة الحواجز بين الدول وتقليص دور الدولة في النظام الاقتصادي وجعل السوق يتحرك كيفما يشاء , والذين رفعوا شعار دعه يعبر دعه يمر , ووصلت قوة دعاة التحرر الاقتصادي الي فرض شروط علي الدول النامية التي تحتاج لمساعدات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي , فالمساعدات لا تمنح إلا بتطبيق شروط السوق الحر , لقد أتاح ضعف وتقليص دور الدولة في الرقابة علي الأسواق الفرصة لمافيا الاستثمار في التحكم واستغلال ثروات الأمم ثم ضياعها .
إن الأزمة في جميع جوانبها أخلاقية , فالذي جمع أموال الناس واستغل ثقتهم وأحلامهم وفر هاربا قبل علي نفسه ما ليس له , والذي دعي إلي حرية الأسواق لم يراعي الاختلاف الكبير بين قوة منتجات الدول النامية وقوة منتجات الدول المتقدمة وبين اقتصاديات ضعيفة متخلفة واقتصاديات قوية متقدمة , والذي قلص دور الدولة والرقابة علي أموال الشعوب لم يقدر ويحرص علي هذه الثروات , وبعد حدوث الأزمة وفقدان الثروات فقدت أيضا أخلاق الصبر والإيمان وتحول الخاسرين إلي وحوش قتلوا أولادهم وأنفسهم .
وإذا نظرنا إلي الجانب الأخلاقي في النظام الاقتصادي الرأسمالي , سنجد أن هذا الفكر لا يراعي أي أخلاق علي الاطلاق , فهو لا يراعي الفروق بين اقتصاديات الدول ويخدم في الأساس الدول المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا حيث يفتح لمنتجاتها أسواق في الدول الأقل تقدما والتي لا تستطيع منتجاتها الوقوف في وجه منتجات الدولة المتقدمة الأكثر جوده والأرخص ثمنا , مما يدمر الصناعات المحلية في الدول الأقل تقدما , وأيضا جعل النظام الرأسمالي الدول تفرط في ثروات شعوبها وتبيعها في المزادات ثم تختفي هذه الأموال بدون حسيب أو رقيب , ثم قلص هذا النظام دور الدولة في الرقابة وإدارة أصول الشعب , فان لم تحافظ الدول علي ثروات شعوبها وتراقبها فمن يقوم بهذا الدور غيرها , مما أدي إلي ظهور طبقة رجال الأعمال الذين تتعدي ثرواتهم ثروات دول وظهور الاحتكار واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء , إذا فالرأسمالية منحت الفرصة لنوازع الطمع والجشع ونهب ثروات الشعوب دون أي بعد أخلاقي .
الإنسان إن لم يحكمه دين وقواعد أخلاقية ترتقي به وتحكم تصرفاته وتقضي علي نوازع الطمع والجزع وتمنحه الصبر وتعطيه الأمل عندما يفقد ثروته , سيتحول إلي وحش يسرق و يقتل وينشر الفساد وهذا ما حدث مع مافيا الاستثمار , إن هدف الدين الأساسي هو الأخلاق , ولا توجد أي معاملات مالية أو تجارية يحكمها دين وأخلاق في العالم اليوم إلا المعاملات الإسلامية مثل القروض الحسنة والصكوك الإسلامية والمرابحة , وفي خضم الأزمة المالية منيت المؤسسات التي تستخدم المعاملات الإسلامية بأقل الخسائر مما لفت انتباه علماء الاقتصاد الدوليين إلي هذا التعامل المالي الأخلاقي واعتبره البعض منهم الحل الوحيد لعدم تكرار أزمات مالية والخروج من الأزمة الحالية .
الجمعة 6 مارس 2009
hany_hagr40@yahoo.com
No comments:
Post a Comment